Slider

[blogger]

Text Widget

Sample Text

صور المظاهر بواسطة kelvinjay. يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Post Top Ad

Header Ads

مرئيات

فضاء الطفل

منشورات و إصدارات

قدماء الجمعية

الدكتور.عبد العزيز عموري
باحث في التاريخ

محاولة في فهم سياق ميلاد الحركة الجمعوية بالمغرب وبعض مجالات اشتغالها على عهد الحماية الفرنسية بالمغرب

1-استهلال لابد منه:

تميز مغرب ما قبل الاستعمار بإفراز عدة مؤسسات وسيطية، مهمتها الرئيسية تأطير الأفراد والجماعات، وهي المؤسسات التي تنوعت من حيث مجالات الاشتغال والأهداف المعبر عنها. وشمل تأطيرها مختلف الفئات، وذلك راجع لكون هذه المؤسسات كانت تعتبر النافذة الوحيدة

للتعبير عن أماني وطموحات الناس خلال هذه الحقبة التاريخية. 

وهكذا، انطلاقا من هذا المعطى، يتبدى أن المغاربة عاشوا في ظل " حركة جمعوية"، مارست وظيفتها تبعا للتطور التاريخي والذهني الذي صاحب المجتمع المغربي. إلا أنه، وبعد قرون، سيشهد المغرب مع بداية القرن العشرين تجديدا كليا في آليات التأطير المعتمدة للساكنة، من خلال مؤسسات مدنية حديثة في بنيتها وأدوارها وتدخلاتها، وقد كان العامل الاستعماري من وراء هذا التطور. فظهرت بذلك عدة تنظيمات مدنية لعبت أدوارا مختلفة في المجالات الاجتماعية والثقافية والسياسية.

وقد ازدادت " الحركة الجمعوية" حيوية خلال القرن المشار إليه بسبب اصطدام البنيات التقليدية المحلية ببنيات حديثة جاءت مع الاستعمار الأجنبي، الذي يعد بشهادة المؤرخين المغاربة منعطفا خطيرا، تغير معه كل شيء من وجه البلاد. ولم يبق شيء منها لا في السياسة، ولا في الاقتصاد، ولا في الاجتماع، ولا في الثقافة، إلا ودخله التغيير، في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ المغرب، وما تلا ذلك من تأثير قوي على مختلف البنيات التقليدية الوسيطية المتواجدة في المجتمع، من حيث أشكال التآزر والتعاون التي كانت سائدة آنئد، ومن حيث تقطيعها لأوصال التضامن بين الأفراد والجماعات المتعايشة لردح طويل من الزمن في الجغرافية المغربية.

ذلك إذن، كان واقع البلاد خلال المرحلة التي نحن بصدد الحديث عنها، مرحلة كانت بمثابة ريح عاصفة أطاحت بما أطاحت به، وأقامت مقامه ما كان مرغوبا في إقامته. وقلبت البلاد رأسا على عقب، محتفظة بما بدا لها ضروريا أن تحتفظ به، ومجبرة سكان البلاد على دخول العصر طوعا أو كرها. وقد تأتى هذا الأمر على يد أول " مقيم عام فرنسي" وهو " هوبير ليوطي". حينها سيعيش المغرب هندسة جديدة تشريعا وممارسة، مع ولوج خطابات ومفاهيم جديدة للفضاء العام، والرجة التي أحدثها الاستعمار الأجنبي بالبلاد ([1]).

لقد كان هاجس الاحتلال الأجنبي منذ أو وطأت قدماه أرض المغرب، يتمثل في العمل على دفع البلاد إلى الانخراط في المنظومة الاستعمارية بكل تجلياتها، من منطلق أنه كان يعتقد بأن تمثل وهضم النموذج الفرنسي سيساعد على تسهيل كلفة الاحتلال، وخلق نخبة قمينة بتحقيق هذا الهدف، وتوظيفها عند الاقتضاء في مجريات الصراع مع ساكنة البلاد. إلا أن هذا التمني ذهب أدراج الرياح، بدليل أن النخبة المثقفة الوطنية، التي حملت لواء التصدي للمستعمر ومخططاته، قامت باستلهام ما يساعدها في صراعها، ومنها "مؤسساته الجمعوية المدنية" المتماثلة تنظيميا مع النظام المذكور/نظام الحماية، والمختلفة عنه من حيث الأهداف والمبادئ والخيارات"([2]).

وطبيعي أن هذا الاحتكاك ولد تجربة حديثة لتنظيمات مدنية، كانت في الغالب الأعم قناعا للعمل الوطني التحرري في مجابهة المستعمر، ووسيلة للتصدي لمختلف محاولات مسخ الهوية المغربية وجعلها منسلخة عن جذورها، ولردم هوة أراد الاستعماريون ترسيخها بين مغربين: مغرب "الأهالي" / الساكنة الأصلية للبلاد ومغرب "المعمرين"/ الأجانب. ومهما يكن، فإن هذه التنظيمات الوليدة كانت بمثابة تجاوب مع الاحتياجات الفكرية والاجتماعية للمغاربة الناشئة حديثا، على إثر الخلخلة القوية التي تعرضت لها البنيات التقليدية للمغاربة([3]).

وهنا يمكننا أن نشير إلى أن المعاينة النقدية لما جرى في تلك الفترة، تتيح لنا إمكانية القول بأن نشأة العمل الجمعوي بالمغرب اقترنت ببداية القرن العشرين – بالطبع ليست بداية قطعية-مستفيدا من النصوص القانونية ذات الصلة التي شرعها المستعمر الفرنسي. بالمقابل نجد أن الفرنسيين أدركوا مبكرا أهمية العمل الثقافي في ممارسة الإخضاع والسيطرة والنفاذ إلى وجدان المغاربة بطريقة مجهرية، كما عبر عن ذلك أحد الفرنسيين بقولة شهيرة تردد صداها في الانتاجات الفكرية لرجالات الحماية الفرنسية والقائلة بأنه" يجب إخضاع النفوس قبل الأبدان ([4])". 

وانطلاقا من هذا الفهم الشمولي للمشروع الاستعماري المسطر في أدبيات دهاقنة الاستعمار، نستطيع القول إن الاحتلال لم ينهج في سيطرته على البلاد ومقدراتها فقط على القوة الاستعمارية، بل سلك علاوة على ذلك مسلكا آخرا تمثل في فحص كل العوامل والمؤثرات والآليات الفاعلة في المجتمع المغربي، ومحاولة قولبتها لصالحه، تدعيما لمشروعه بأقل الأثمان الممكنة.    

مقابل هذا الاهتمام الفرنسي، اتخذ المغاربة من العمل الثقافي واجهة للنضال ضد الاستلاب الثقافي الذي أريد له أن يسود في المجتمع المغربي، حيث استلهموا التجربة الشرقية الوافدة على البلاد من بعض البلدان كمصر. فكان ذلك إيذانا بانطلاق شرارة الصراع الثقافي، ونقطة تحول فارقة في المجابهة مع المحتل الأجنبي الفرنسي والإسباني.

إن محاولتنا في هذه المساهمة الوقوف على السياق التاريخي لميلاد المنظمات الجمعوية بالمغرب بمختلف تعبيراتها المدنية، تنبع من رغبة بحثية في فتح الأبواب على مصراعيها أمام كل الأسئلة التي تقتضي البحث والدراسة في الصيرورة التاريخية لهذا الفعل التطوعي، فضلا عن كونها محاولة للتعرض لسياق تاريخي، نعتقد أنه ظل منسيا ومغيبا من دائرة التأليف والتناول الأكاديميين، ويشوبه بياض كثير آن الأوان لرتق ثغراته، حسب ما تتيحه المادة التاريخية المتوفرة في هذا المجال، والتي هي عبارة عن نصوص قانونية صدرت في الجريدة الرسمية، أو كانت عبارة عن مقالات صحفية صادرة في بعض الجرائد التي كانت تصدرها إدارة الحماية ك "جريدة السعادة"، أو كانت تحظى برعاية هاته الأخيرة، أو بعض الكتابات التوثيقية لبعض الدراسين الذين آثروا الغوص في تاريخ هذا المجال الخصب والغني من تاريخ بلدنا المعاصر.

يتبين إذن، من خلال ما سبق، أن تناول هذا الموضوع ذو أهمية بالغة في تلمس بعض الخطوط المؤسسة لتشكل بنيات مدنية إبان الفترة التي تلت احتلال المغرب، بالاستناد على ما توفر لدينا من معطيات حول طبيعة تلك التنظيمات وأهدافها ومجالات اشتغالها كما سنرى فيما تبقى من هذه المساهمة البحثية. وتبدو هذه الأهمية، خصوصا إذا علمنا بأن كل تنظيمات الحركة الوطنية السياسية التي قامت بالبلاد إنما اعتمدت من أجل ترسيخ وجودها وإضفاء بعد جماهيري على نضالها على العمل الجمعوي. وتبدو مصداقية هذا التحليل أكثر حينما نكتشف أن جزء كبير من القيادات الوطنية قد تمرس في صفوف المؤسسات الجمعوية، وأيضا باكتساب آليات جديدة مكنتها من التصدي لمهامها في مواجهة المستعمر وسياساته التمييزية بين المغاربة.

2-نبش في تاريخ العمل الجمعوي بالمغرب

 

لعله من الجوهري أن نثير هنا مسألة أساسية، تتمثل في أن المغرب عرف تواجدا لعدة بنيات وممارسات داخل الفضاء العام المشترك، ساهمت بدور فعال في تأطير المجتمع، والقيام ببعض المهام الأساسية في عدة مستويات، كان الطابع العفوي هو الغالب عليها، وأكسبت المجتمع المغربي هوية تاريخية خاصة به وفق قيم متفق عليها سلفا من تعاون وتضامن وتآزر.

وإذا عدنا إلى ماضي المغرب، سنجده قد تميز تاريخيا بمجموعة من البنيات التنظيمية التقليدية، لعل من أبرزها: الطرق الصوفية، والقبائل، و" الحنطة"([5])، هي من يقوم بما يسمى الآن ب "العمل الجمعوي"، وتم توظيفها في تأطير وتنظيم أفراد المجتمع المغربي، والاهتمام بحاجيات أفراده من مختلف الأعمار، وكانت هذه التنظيمات قريبة من حياة المغاربة، يعتمدون عليها بشكل كبير في مختلف مجالات حياتهم. كما نجد أيضا في هذا الإطار المؤسسة التربوية: الكتاب-المدرسة التي كانت تعلم الدين والشريعة ([6]).

وقد كانت تلك المؤسسات التقليدية تعتمد في تنظيمها لحياة المغاربة على عدة قنوات، نذكر من بينها الحلقات الدينية المقامة احتفالا بمشايخ الصوفية، أو من خلال الاحتفالات الموسمية ذات الصلة بالفلاحة كالحرث والربيع والحصاد، والتي كانت تقام خارج أسوار المدن أو داخلها، حيث كانت تشكل مناسبة للتداول في مختلف القضايا التي تهم المجتمع ومكوناته.

والخلاصة أننا أمام مؤسسات انبثقت من صلب المجتمع، اعتبارا لملحاحيتها، ولأدوارها المهمة. في هذا السياق يذكر محمد عابد الجابري: " أن المجتمع المغربي إلى حدود الثلاثينات من هذا القرن، وهو تاريخ الميلاد الرسمي للحركة الوطنية، كان مجتمعا تؤطره القبيلة والزاوية. وهما إطاران اجتماعيا وحيدان ومتداخلان ينتظمان أفراد المجتمع. أما الدولة (دولة المخزن قبل الحماية) فقد كانت جهازا فوقيا يستمد سلطته وفعاليته، بل ووجوده من نوع العلاقة التي يقيمها مع الإطارين المذكورين (الزاوية والقبيلة)"([7]).

ويدفعنا الحديث عن "الزاوية" كإطار ديني واجتماعي إلى استحضار ما قاله المؤرخ المغربي القبلي محمد عن هذه المؤسسة الصوفية معتبرا إياها " مؤسسة تركيبية، إنها تركيب تاريخي للرباط والطائفة، أي لفعل الصلحاء/ أصحاب الطرق الصوفية المميز بفرديته وجهاديته...على تخوم وجيوب المغرب المستعمرة من جهة، ولمؤسسة دينية ظل الأفراد ينتظمون داخلها، ويلتحمون بفضل طقوس وشارات"([8]).

وارتباطا بذات الموضوع، يؤكد الباحث الزاهي نورالدين، أن " الزوايا الصوفية" بالمغرب عاشت حضورا نوعيا مع نهاية القرن التاسع عشر داخل المجتمع، إلى درجة أعيد معها هيكلة ذلك المجتمع ([9]). في ذات المنحى يذهب أحد الباحثين الفرنسيين بالقول إن الاستعمار كان حافزا لقيام أصحاب "الطرق الصوفية" بأدوار المقاومة والتصدي للأجانب، وحماية الجماعات من كل الأخطار التي كانت تهددهم داخليا وخارجيا ([10]).

وبالنسبة للإطار الاجتماعي الثاني أي " القبيلة"، يؤكد المنجز السوسيولوجي حول المجتمع القروي المغربي أنها قامت بأدوار تنظيمية غاية في الأهمية، باعتبارها بنية تنظيمية انبرت لتأطير الأفراد والجماعات عبر مجموعة الأشكال اتخذت صبغة تضامنية، وتحولت مع مرور الزمن إلى طقس اجتماعي ديني، بالنظر لكون الأعمال المنفذة على هذا الصعيد من قبيل أعمال الحرث والحصاد كانت تستفيد منها " الزاوية" والمدرسة والمسجد أو ما يطلق عليه باللغة الأمازيغية " تمزكيدا"([11]). هذا ناهيك عن مجموعة أعمال أخرى قد يستفيد منها فرد أو عدة أفراد أو مجموع القبيلة من قبيل: بناء قناطر، تعبيد طرق، صيانة قنوات الري، إصلاح أراضي الرعي الجماعية...([12]).

وعلاوة على هذه الأدوار التضامنية الاجتماعية التي وسمت بنيات الوجود الاجتماعي التقليدي، لم تتواني" القبيلة " عن القيام بدورها التحرري في ضد المستعمر الأجنبي الفرنسي والإسباني، على الأقل إلى بداية الثلاثينات من القرن الماضي، تحت قيادة شخصيات بصمت وجودها في تاريخ المغرب المعاصر ([13])، لا يسعف المقام في التطرق لأدوارها وحضورها المقاوم. 

وبالعودة إلى ما كتب من دراسات، نقف على بعض التنظيمات الاجتماعية التقليدية، تحيل إلى ما يعرف حاليا ب " الديموقراطية التشاركية"، ومنها مؤسسة " اجْماعة" كبنية اجتماعية عرفية متجذرة الأصول في التربة المغربية، وكنمط في التدبير التشاركي بين مختلف مكونات "القبيلة". وبالنسبة لأدوار هذا الكيان، يمكن التمييز بين أربعة وظائف أساسية مؤثرة. أما الوظيفة الأولى فأخذت طابعا تحكيميا تجلى في حل النزاعات والخلافات الفردية والجماعية. بينما اكتست الثانية طابع حماية المكونات والمرافق المشتركة التابعة ل " اجْماعة". وأما الوظيفة الثالثة فتختص بما هو تدبيري وتنظيمي، من خلال تحديد أوقات بدء الحرث ومواسم جني الزيتون والحصاد، وتنظيم الرعي ودورات سقي الحقول. وتمحورت الرابعة حول   اختيار من ينوب ويترافع باسم " اجْماعة" لدى ممثلي السلطة في المجال الجغرافي الذي تتواجد فيه هذه البنية ([14]). 

ولئن كانت المؤسسات الاجتماعية التقليدية قد توفقت إلى حد كبير في تدبير ما هو مشترك داخل القبيلة، وتنظيم علاقة هاته الأخيرة مع السلطة وممثليها في المجال، فإن ذلك لا يعني البتة تماثل أدوارها مع ما تقوم به حاليا مؤسسة" الجمعية"، باعتبار أن الأمر يتعلق بنسقين اجتماعيين متباعدين من حيث طبيعة العلاقات القائمة بين أفرادها، والغايات والمهام والأدوار الموكلة لكل تنظيم حسب الشرط التاريخي لكل منهما، ولو أنهما يشتركان في معطى التعاون والمشاركة ([15]).

وإذا كان هذا هو الوضع في فترات زمنية سابقة، فكيف أضحت عليه التنظيمات المدنية بعد خضوع المغرب لاحتلال أجنبي أحدث رجة عنيفة في بنيات المجتمع على كافة الأصعدة، وأفقدته توازنه على الأقل في تدبير شؤونه وقضاياه، ببروز بنيات جديدة زاحمت وجوديا ما كان قائما قبل سنة 1912؟ وقبل محاولة الإجابة على هذا الإشكال، تستدعي الضرورة الملحة التطرق ولو بإيجاز للغطاء القانوني الذي ستتحرك ضمنه التنظيمات الأهلية الحديثة.

3-الإطار القانوني والمؤسساتي لتنظيمات الحركة الجمعوية على عهد الاستعمار الفرنسي

تعود أولى الإجراءات القانونية لتأسيس المنظمات الجمعوية بالمغرب، إلى تاريخ 24 ماي 1914، حيث صدر أول "ظهير" أقرته سلطات " الحماية الفرنسية" في مجال " ضبط وتنظيم تأسيس الجمعيات"([16]). ومعلوم أن هذا "الظهير" كان مستنبطا من القانون الفرنسي الصادر في فاتح يوليوز سنة 1901 الخاص بالجمعيات الفرنسية، حيث قامت إدارة الحماية الفرنسية بإعادة تكييفه مع واقع المجتمع المغربي، كآلية من بين أخرى لضبط وإدماج المجتمع المغربي في النسق الكولونيالي المستجد على البيئة المغربية، وما أفرزه من تحديات جديدة على كاهل المستعمر. ومما ورد فيه أنه:" لا يمكن تأسيس جمعية إلا بإذن من المقيم العام الفرنسي، وذلك بتقديم طلبات التأسيس إلى السلطات البلدية والرقابة المدنية للنظر في الموضوع([17]).

إلا أنه ورغم وجود هذا الإطار القانوني لتأسيس التنظيمات الجمعوية، فقد ظلت هاته الأخيرة تعاني الأمرين من طابعه الزجري. ولا أدل على ذلك وقوفه/ القانون سدا منيعا أمام تأسيس إطارات مدنية مغربية بخلفية وطنية بحثة، ذلك أن إدارة الحماية الفرنسية كانت كثيرا ما كانت تتلكأ في منح تراخيص التأسيس لمغاربة تشك في ولائهم لها، مقابل ذلك كانت لا ترى مانعا في تشجيع العمل الجمعوي الذي يخدم غاياتها، أو على الأقل لا يشكل تهديدا لوجودها. والمنظمات الوحيدة التي سمح للمغاربة بتأسيسها مؤقتا، هي ما يعرف ب "جمعيات قدماء تلاميذ المؤسسات الثانوية" في المراكز الحضرية، أو بعض "مدارس الأعيان"، لكن هي الأخرى كانت مشروطة بعدم القيام بأي نشاط سياسي كيفما كان نوعه.

رغم سن الإدارة الفرنسية للعديد من التشريعات والقوانين ذات الصلة بتأسيس الجمعيات، إلا أن واقع الحال كان لا يترك مجالا للشك حول حقيقة مفادها أن المغاربة كانوا ممنوعون من ممارسة الفعل الجمعوي، وحتى إذا قاموا بذلك فإنهم يتعرضون لشتى المضايقات والمنع والحصار لأنشطتهم.

وكان على الوطنيين المغاربة انتظار لحظة انتصار "تكتل اليسار الفرنسي" سنة 1924 في الانتخابات الفرنسية، حيث شكلت هامشا انعكس "إيجابا" على تطور الحركة الجمعوية بالمغرب. وتبلور ذلك في ظهير صدر في شهر ماي من سنة 1925. وقد سمح هذا النص القانوني للشباب المغربي بالتعرف على الممارسة الجمعوية، كممارسة مدنية يمكنهم من خلالها مناقشة القضايا الرئيسية التي تتعلق بقضايا التحرر من ربقة المستعمر، وتحصين الهوية الوطنية بشكل انسيابي، مع ما يتيحه ذلك من تيسير التغلغل داخل أوساط المجتمع ([18]). يقول عبد الله حمودي في هذا السياق:" غير أن هذا المجتمع المدني الوطني ما فتئ أن يخلق لنفسه مصيرا يعارض بشدة المجتمع المدني المحصور في إطار الاستعمار، حيث التضامن بينهما لم يكن أكثر من وهم". ويضيف " أنه قد نشأت انتقادات الوطنيين للطغيان الاستعماري، ووضعت هذا الاستعمار نفسه في حضن هذا المجتمع المدني ذي حرية المراقبة الذي يحيط به فلاحون مستقرون وموزعون مجاليا بطريقة جذرية جديدة"([19]).

وإلى غاية بداية الثلاثينيات من القرن الماضي، كان تأسيس المنظمات ذات الطابع السياسي أمرا ممنوعا ومعاقب عليه، إذ أن الظهير الصادر سنة 1933 الخاص بتكوين/تأسيس "الجمعيات" لم يأت بشيء جديد في هذا المضمار، اللهم إلزام "الجمعيات" بإعادة الإجراءات التي نص عليها ظهير1914.

وبناء على ذلك، كانت الرقابة الصارمة سيدة الموقف، حيث كثرت قرارات المنع والحل في حق العديد من الجمعيات الثقافية (جمعية الحركة الكشفية المغربية، جمعية قدماء تلاميذ المدرسة الإسلامية، جمعية الهلال.) لا لشيء سوى أنها ساهمت بقوة في إذكاء حماس المغاربة، وتعرية واقع الاستعمار، والتي وصلت ذروتها في إصدار أحكام بالإعدام في حق مسيري بعض الفرق الرياضية، اعتبارا لدورها في الاتصال بالمواطنين ونشر مواقف الحركة الوطنية.

من المؤكد أن فعل المواجهة في ممارسة العمل المدني الذي شكل خيارا تاريخيا لدى نخب الحركة الوطنية بالمغرب، لم يكن مجرد موقف سياسي تبنته الحركة الوطنية أو النخب العصرية لمخاطبة الجهاز الحاكم المستعمر بلغته وأسلوبه، ومطارحة سياساته ومؤسساته بتنظيمات بديلة، لا يختلف إثنان كونها كانت نتيجة حتمية للتحولات الفكرية والاجتماعية الطارئة مع الرجات العنيفة التي تعرضت لها البنيات العتيقة بالمغرب ([20]). فما هي طبيعة المنظمات الجمعوية التي برزت إلى الوجود على ضوء الترسانة القانونية لسلطات الحماية الفرنسية حينئذ؟ وما هي أصنافها ومجالات اشتغالها؟

4-الجمعيات المغربية التي حظيت ب "رعاية مطلقة من إدارة الحماية"

استنادا إلى المرجعيات القانونية السالفة ذكرها، عملت السلطات الاستعمارية الفرنسية على الإشراف على تأسيس منظمات نالت رضى السلطات الحاكمة، وقدمت لها مختلف أنواع الدعم المادي والإداري، وفوضت رئاستها لباشوات وقواد؛ لذا لم تكن تنظر إليها بارتياب كما كان الأمر إزاء التنظيمات التي بادر الوطنيون إلى تأسيسها. ومن بين تلك المنظمات نجد:

أ. "الجمعية الخيرية الّإسلامية الرباطية" ([21])، أسست سنة 1925، وهي إحدى أهم الجمعيات التي عنى بها الفرنسيون، وترأسها شرفيا باشا مدينة الرباط آنذاك " عبد الحي بركاش"، وكان من بين مهامها:

- إطعام المعوزين والفقراء واحتضانهم بالملاجئ الخيرية؛

- تربية الأطفال وخصوصا الأيتام منهم، ومدهم ببعض اللوازم البسيطة، وتلقينهم بعض الحرف التقليدية؛

- توزيع إعانات نقدية في الأعياد السنوية على العائلات الفقيرة وخاصة في المناسبات السنوية ([22]).

ورغم أن عمل هذه الجمعية، انطلاقا من تسميتها، انصب على الجانب الخيري الصرف، فإنه كان يترجم توجها رسميا لدى السلطات الاستعمارية والقاضي بجعل ولوج المؤسسات التعليمية التلاميذ حصرا على أبناء أعيان المدينة فقط.

ب. "جمعية النادي الفرنساوي المغربي": وهو النوع الآخر الذي كانت تحظى بعناية سلطات الحماية، فقد تم تأسيسها بمدينة الدار البيضاء سنة 1935، وتبعا لما نشر في هذا الموضوع يمكن التعرف على بعض بنود قانونها في الآتي:

- " المادة الثانية: القصد من الجمعية هو تمتين روابط الود والتعاون بين الفرنسيين والمغاربة والعمل على التفاهم والتوفيق بينهما.

- المادة الرابعة: إن النادي ممنوع عليه التدخل في أي عمل يدين أو سياسي وأعضاؤه ممنوعون من أي جدال ديني أو سياسي داخل مركز الجمعية"([23]).

يظهر من خلال هذا أن هذه الجمعية كانت تسعى لخلق روابط بين الفرنسيين والمغاربة وحثهم على الانسجام والتعاون.

ت. "جمعية الاتحاد الرياضي للرباط وسلا": تم الاعتراف القانوني بهذه الجمعية في 7 أكتوبر 1932، ولم يظهر الخبر بجريدة السعادة إلا بعد شهر ونصف من صدور قرار الاعتراف بالجمعية. وجاء الخبر في جريدة السعادة على الشكل الآتي:

" الاتحاد الرياضي الإسلامي للعدوتين، عنوان جمعية فتية تألفت أخيرا من شباب الرباط الناهض النشيط العامل المتيقظ الأمين، وأحرزت على ثقة الحكومة التي منحتها إذنها وسهلت عليها جميع الأسباب، وقد شكلت مجلسا إداريا لإدارة شؤونها الخاصة والعامة، واتخذ أعضاؤها رئيسا لهم جناب الشباب النشيط الغيور السيد أحمد بن غبريط، وأمينا لصندوقها الشاب المهذب عبد الجليل القباج"([24]).

وتشير المعطيات المتوفرة عن هذه الجمعية، أن مجلسها الإداري كان يتكون مجلسها الإداري من سبعة أعضاء: أربعة مغاربة وثلاثة فرنسيين ([25])، وهم:

ü    الرئيس: أحمد بن غبريط؛

ü    نائبه: الستيل العيساوي؛

ü    نائبه: المسيو مينيو؛

ü    الكاتب العام: مسعود الشيكر؛

ü    خليفته: المسيو طراسي؛

ü    أمين الصندوق: عبد الجليل القباج؛

ü    خليفته: المسيو ديمار.

فضلا عن قيادة شرفية تتكون من عدة شخصيات مخزنية وفرنسية، على الشكل الآتي:" باشا مدينة الرباط عبد الرحمان بركا، وباشا مدينة سلا محمد الصبيحي، والحاج عمر التازي، ورئيس التشريفات الملكية قدور بن غبريط، ورئيس إدارة البلدية المسيو رايو"([26]).

كما أن نشاط هذه الجمعية كان متنوعا، يشتمل على عدة فروع: فرقة كرة القدم تحت رئاسة محمد بوزيان، فرقة السباحة تحت رئاسة السيد عمر الأوديي، فرقة كرة السلة تحت رئاسة مسيو ليفي، فرقة الرياضة البدنية تحت رئاسة مسيو براطي، فرقة الكشافة بقيادة الشريف السيد الستيل العيساوي ([27]).

5-الجمعيات الفرنسية:

منذ توقيع عقد الحماية وفرض فرنسا لسيطرتها على البلاد، اتجهت مصالحها إلى تأسيس عدة جمعيات فرنسية، حظيت بمختلف التسهيلات القانونية والإدارية. اتجه عملها إلى استقطاب جزء من الشبيبة المغربية([28]) ، ولو أنها لم تتوفق في هذا الأمر سواء من طرف التلاميذ المغاربة أو آباؤهم، كما يوضح ذلك تصريح أحد زعماء هذه التنظيمات الكشفية وهو الفرنسي " رنون" رئيس جمعية كشفية بالدار البيضاء، حيث يقول في هذا الصدد :" وقد طلب منا جنابه أن نسعى لدى شباب الدار البيضاء للدخول في فرقته المغربية، و أفهمنا أن يتساهل كثيرا معهم ويعمل كل جهده لتمرينهم وفعلا أخذنا نجد ونسعى لأجل هذه الغاية، وقد تكلمنا مع رئيس نادي قدماء التلامذة السيد الحاج المختار بن عبد السلام وغيره، وكلهم حبذوا فكرتنا ووعدوا بالسعي لتأليف فرقة مغربية وطنية، وقد مضت أيام وشهور والوعد بدون إنجاز ولا نعلم ما هو السبب الموجب لهذا التأخير"([29]). ومن بين هذه الجمعيات، نذكر الجمعيات الكشفية التالية:

 

 

-         "ليسكوت دو فرانس"، وهي منظمة كانت تتبناها الكنسية الكاثوليكية؛

-         "ليزكليرور دو فرانس"([30])، وهي منظمة كانت تتبناها الأحزاب والنقابات الاشتراكية والشيوعية الفرنسية؛

-         "إيمويست"، وهي منظمة كانت تتبناها الكنيسة البروتستانية.

ويمكن في هذا الصدد أيضا الإشارة إلى عدة جمعيات أخرى، متنوعة الأهداف، لكنها كانت متحدة في تكريس الهيمنة الاستعمارية على البلاد، ونشر أيديولوجيتها وسط شباب المغرب. ومن التنظيمات التي كانت نشيطة، وحظيت بتشجيع وافر من سلطات إدارة الحماية، نذكر:

أ. "المجلس البروتستاني للشبيبة": عرف عن هذا المجلس أنه تأسس بفرنسا سنة 1941، وفتح له فرعا في المغرب سنة 1942، يجمع مختلف أصناف الشباب المسيحي والبروتستانتي، دون أن يكون له ارتباط بكنيسته البروتستانية ([31]).

ب. "الجمعية الكاثوليكية للشباب الفرنسي"([32]): من بين المهام الموكولة لهذه الجمعية، العمل على تجميع كل الشباب الكاثوليكي الفرنسي قصد مساعدتهم لممارسة أنشطتهم الدينية، وقد ضمت بين صفوفها شبابا وطلبة وعمالا فرنسيين. كما كانت تقوم بتحسين ظروف العمال المعيشية في المعامل، فضلا عن اهتمامها بالجانب الاجتماعي لهذه الفئات ([33]). فتحت هذه الجمعية فروعا لها بكبريات المدن المغربية. كانت تتلقى مساعدات مالية من السلطات الفرنسية.

ت. "ودادية الشبيبة الفرنسية": تأسست في مايو 1954، وانصب اهتمامها على تكوين الجالية الفرنسية المتواجدة بالمغرب، وخاصة تلك التي تستقر بالدار البيضاء ونواحيها، تكوينا وطنيا وثقافيا ونفسيا ([34])، عن طريق المحاضرات واللقاءات التي تنظمها لفائدة منخرطيها كل أسبوع. كونت هذه الجمعية فرقتين الأولى مسرحية والثانية موسيقية، تشارك في الأعياد والمناسبات الفرنسية، وتعتبر من الحركات النشيطة بالمغرب وذلك بتنظيمها الجيد وعلاقتها مع مختلف الجمعيات الأخرى ([35]).

ث. "جمعية الشبيبة اليهودية (شارل نيتر)": تأسست بالدار البيضاء سنة 1928 ومن أهدافها: نشر الفنون وتشجيع الرياضة في أوساط الشباب اليهودي بالمغرب، وتوفير وسائل الترفيه السليمة لأعضائها، والعمل على إيصال الشبيبة اليهودية إلى مراتب الحضارة الفرنسية، والاحتفال بذكرى Charles Netter ([36]).

وهنا لابد من التأكيد على قضية غاية في الأهمية، وهي أن التنظيمات التي أشرنا للبعض منها أعلاه، كانت تندرج ضمن سياسية شبيبة فرنسية، قامت إدارة المحتل بتجريبها وسط الشبيبة والطفولة المغربيتين، من منطلق أن هاتين الفئتين مؤهلتين لاستبطان السيطرة الكولونيالية، حسب زعم المستعمر. ومن بين الآليات المعتمدة لتحقيق هدف الاستبطان المشار إليه نذكر على سبيل المثال لا الحصر: "المخيمات الصيفية". فكيف كانت خصائص هذا النشاط، التربوي في ظاهره، السياسي في مضمونه؟ وما هي أبرز مراحل تطوره؟

6-مخيمات الطفولة بالمغرب: النشأة والتطور

يجهل الكثيرون تاريخ نشأة مخيمات الطفولة بالمغرب، والسبب لامحالة راجع إلى انعدام دراسات وبحوث توثيقية وميدانية حول المسيرة التخييمية بكافة جوانبها ماضيها وحاضرها، وخاصة ما يتعلق منها بتاريخ هذا النشاط إبان الفترة الاستعمارية.

في ذات السياق، يؤكد المهتمون بتتبع السيرورة التاريخية لمجمل الأنشطة التي كان الأطفال المغاربة موضوعا لها، أن المخيمات بالمغرب نشأت في ظل ظروف استعمارية وطيدة الارتباط بأجواء الحرب العالمية الثانية قبل وأثناء وبعد انتهاء هذه الحرب الكونية، وكذلك اشتداد وطأة الصراع بين مكونات الحركة الوطنية المغربية و إدارة المستعمر الفرنسي في المطالبة بالحرية و باستقلال البلاد، و فسح المجال أمام المغاربة لتسيير شؤون بلادهم، بعدما تبت زيف شعارات سلطات الحماية وضربها عرض الحائط لكل التزاماتها التي وردت في عقد الحماية ذاته اتجاه البلد ومواطنيه.

وانطلاقا من المحاولات التوثيقية الشحيحة التي قام بها بعض الفاعلين، يمكن الجزم أن المغرب لم يشهد قبل الأربعينيات تنظيم أي نشاط يقارب المخيمات أو يشابهه كما هو متعارف عليه حاليا. لكن ومع بداية سنة 1940 سيبدأ الفرنسيون وخاصة الأطر الفرنسية التي كانت لها خلفية كشفية في التفكير في إنشاء مخيمات تقام في معسكرات للجيش بعد أن تم تكييفها لتتحول لفضاءات مخصصة لاستقبال الأطفال ([37]). لكن تجدر الإشارة إلى أن العوامل التي عجلت بتنظيم هذه الأنشطة كانت على ثلاثة أنواع: سياسية، واجتماعية، ودينية ([38]):

-         عوامل سياسية:

مرتبطة بالأساس بمحاولات السلطات الفرنسية إبعاد الأطفال والشبان الفرنسيين عن مجريات أحداث الأربعينيات حيث خضعت فرنسا للاحتلال الألماني، وما تلا ذلك من أحداث تواترت أخبارها على المغرب. لذلك سعى الفرنسيون إلى وضع هؤلاء الأطفال والشبان في أماكن بعيدة عن موطنهم الأصلي، التي تعذر عليهم قضاء عطلهم به، بالنظر لكون هذه الدولة كانت طرفا مشاركا في هذه الحرب العالمية.

-         عوامل اجتماعية:

تقوم على توفير ظروف ملائمة لهؤلاء الأطفال الفرنسيين أثناء العطل للترويح عن أنفسهم بسبب مشاركة آبائهم في الحرب، وكذلك للترفيه والتثقيف الذاتي، وممارسة أنشطة ثقافية ورياضية.

-         عوامل دينية:

كان وراءها الكنيسة الكاثوليكية، التي اهتبلت فرصة الحرب لإنشاء مراكز للاصطياف يديرها رهبان، وهدفت من خلالها إلى القيام بتكوين ديني لفئة الأطفال وتوفير ملاذات أمنة لهم ([39]).

إلا أنه وبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها سنة 1945، شرعت السلطات الفرنسية في تكثيف اهتمامها بمجال مخيمات الأطفال والشباب، فاتحة إياها أمام منظمات الشبيبة الفرنسية واليهودية، التي منحت لها مهمة الإشراف والتنظيم والتكوين. كما أحدثت لهذا الغرض مصلحة مركزية داخل "الإقامة العامة" تقوم بمهمة الضبط والتنظيم والإشراف، واستتبعت ذلك باستصدار قوانين وتشريعات على غرار ما شرعته في ظهير 08 أبريل 1941 المتعلق بتنظيم المؤسسات المخصصة للشبيبة، الذي عدلته في 17 أبريل 1942، وتممته في 29 ماي 1943([40]).

وما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام، أن الاستفادة من هذه المخيمات كانت مقتصرة فقط على أبناء الفرنسيين وبعض أبناء اليهود والأعيان المغاربة، في مدة زمنية محدودة وفي أمكنة معينة.

كما بادرت بعض المؤسسات والشركات الكبيرة ك "المكتب الشريف للفوسفاط" و"البريد" و"السكك الحديدية"، لما تتوفر عليه من إمكانيات مالية كبيرة قياسا بتلك الفترة، إلى إنشاء فضاءات تخييمية جبلية تحت إشراف وإدارة مصلحة الشبيبة والرياضة المشار إليها آنفا، لفائدة أبناء الموظفين والعاملين بهذه القطاعات، على غرار ما هو كائن بالمركز، فرنسا. وتمركزت هذه المخيمات في غالبيتها في الأطلس المتوسط في وسط المغرب (ستة (06) مخيمات) وفي جنوبه وشرقه ([41]). وكان تأطيرها يتم من طرف الجنود والرهبان والأطر التعليمية والكشفية. أما على صعيد الأطفال المستفيدين فقد بلغ مثلا سنة 1945: 4362 ضمنهم 3% من المغاربة ([42]).

صفوة القول، أن إدارة المستعمر لما اتخذت قرارها بإنشاء "مخيمات صيفية" بالمغرب، كانت توجهه فقط لأبناء الأطر الفرنسية العاملة في مختلف أجهزة ومؤسسات إدارة الحماية، وسخرت لذلك منظمات دينية مسيحية وجماعات يهودية كانت تدور في فلك المستعمر، وتخدم مصالحه وتوجهاته. ورامت من وراء ذلك تنشيط مواطنيها والتخفيف عنهم من وطأة الحرب وتداعياتها، معتمدة في ذلك برمجة سياحية وترفيهية. وبالنسبة للمغاربة المستقطبين للمشاركة في هذه الأنشطة، كان الهدف أن تغض الشبيبة المغربية نظرها عن المشاركة في النضال الوطني. وكل ذلك مؤطر ضمن استراتيجية سياسية محضة ([43])، من تجلياتها توسيع شبكة مخيمات الطفولة والشباب، وتنظيم تظاهرات رياضية جبلية، وأوراش تطوعية، وتنشيطية داخل مؤسسات ثقافية وضعت لهذا الغرض ([44]).  وانخراط الوطنيين المغاربة في عملية " مغربة" النشاط الأهلي الموجه للطفولة والشباب، وتوسيع دائرة استفادة الشبيبة المغربية مما هو متاح آنئد من ممارسة جمعوية حتى ولو كانت في ظل نظام الاستعمار. وعاد التفكير من جديد بما يمكن أن يسند مجهودات الحركة الوطنية في تجاوز مختلف مظاهر التأخر التي كانت سببا في فرض نظام الحماية منذ بداية القرن العشرين.

  وكان من بين تجليات هذه الاستدارة، الاتجاه إلى استنفاذ طاقات الشباب المتزايد، وأيضا لتكريس تلك الحاجة إلى الاختلاف في حلل جديدة بعد أن تجاوز الوضع زمن القبيلة والزاوية. وفي هذا الصدد كان الاقبال على الدورات التدريبية البيداغوجية الملقنة في التداريب التربوية التي كانت تشرف عليها "إدارة الشبيبة والرياضة" الفرنسية، ومنها تداريب سنة 1947، وهي تداريب مختلطة بمشاركة فئات مختلفة ثقافيا وعقائديا: مسلمين ومسيحيين ويهود. وقد توج هذا الأمر بتنظيم أو تدريب مغربي لأطر المخيمات وأنشطة الأطفال سنة 1949، اعتمد في جزء منه على تعريب المناهج ووسائل التنشيط بمساعدة بعض الفرنسيين، على رأسهم السيد " تيبو" " Thibault، المسؤول عن قسم أنشطة الهواء الطلق بإدارة الشبيبة والرياضة ([45]). ولم يكن لهذا الأمر أن يبلغ مداه أفقيا وعموديا، لولا أن شبكة المخيمات القائمة توسعت مقارنة مع ما كانت عليه سابقا، وفتح هامش للاستفادة لعموم الأطفال المغاربة، بعدما كانوا ممنوعين من المشاركة اللهم أبناء الأعيان، وكذلك الحضور الطاغي للأطر المغربية في تدبير أنشطة الإدارة الفرنسية المسؤولة عن تنزيل سياسة الحماية إزاء الشباب والطفولة.

وعلى كل، يجمع الباحثون أن بداية خمسينيات القرن الماضي (تحديدا سنة 1949) شكلت الانطلاقة الفعلية لانتعاش أنشطة الترفيه الموجهة للأطفال واليافعين، إن على صعيد مشاركة المغاربة في تأطير أنشطة الهواء الطلق، أو الأطفال المستفيدين ذوو الانتماء المغربي، كما يتجلى في المعطيات الإحصائية التالية ([46]):

 

التأطير التربوي للمخيمات

مشاركة الأطفال المغاربة في المخيمات

السنة

مغاربة

يهود

مسيحيين

مغاربة

من أصل

%

1949

154

303

104

1930

6915

27.91

1950

207

381

91

2041

8639

23.64

1951

134

379

92

2884

9123

31.62

1952

254

333

168

4078

11317

36

1953

304

417

137

4232

12279

34.46

1954

379

166

89

5126

12842

39.91

1955

688

245

30

5909

12315

46.95

 

وارتباطا بذات الدينامية المشار إليها آنفا، كان على الوطنيين المغاربة، تأسيس مزيد من التنظيمات الأهلية، والنوادي المسرحية، والثقافية، باعتبارها مشاتل خلايا وطنية مقاومة حاضنة لرغبات الانعتاق والانتصار للهوية والتاريخ المغربيين. ولم يكن هذا الخيار سهلا متاحا، بل كثيرا ما تعرض لحملة نسف ممنهجة، وتحجيم لإشعاعه، بالنظر إلى استشعار إدارة الحماية ما تمثله هذه الحركة الجمعوية الوليدة من تهديد مباشر على مشروعها الاستعماري، لذلك سعت إلى التضييق على مجمل مبادرات الشبيبة المغربية بالضبط والمراقبة والتجسس، كشكل من أشكال التحكم في سيرورة تطور الحياة الجمعوية الأهلية بالمغرب ([47]).

7-انفتاح الحركة الوطنية المغربية على العمل الجمعوي بمفهومه الحديث

   تأسيس تنظيمات جمعوية لمقارعة الاحتلال:

يؤكد كثير من الباحثين الذين تصدوا لدراسة الفترة الاستعمارية بالدرس والتحليل، أن الحماية الأجنبية كانت وراء فتح أبواب "التغيير" على مصراعيها، وأقحمت البلاد فيها مرغمة ومكرهة. وبالنظر لهاته الأجواء المستجدة بدأت " مؤسسات الوساطة" القديمة تتوارى إلى الخلف من حيث سلطتها ومواردها، وبدأ نفوذها في الأفول، واضمحلت قدرتها على الاستمرار في تلبية احتياجات المغاربة على مختلف الصعد. لتعوض بمؤسسات تأطيرية أخرى جديدة، تشكلت من "جمعيات" ذات صبغة عمومية، كانت تهدف بهذا القدر أو ذاك إلى خلق شروط ممارسة أهلية ثقافية وطنية، وإن اتخذت طابعا دينيا في الغالب الأعم، كخطوة أولى في مواجهة الأجنبي والتصدي لسياساته التمييزية، والتأسيس من تم لمطلب مشاركة جميع المغاربة في تدبير شؤون وطنهم وبلادهم.  

 وكان على النخبة الوطنية لتحقيق هذا المرام العمل على نقل المقومات البيداغوجية الحديثة في التسيير والتنظيم إلى أوساط الشبيبة المغربية، وتأطير ذلك بشعار الحفاظ على الهوية الأصيلة التي كانت تتعرض للطمس والتمييع. لذلك لم تجد النخب الشبابية المغربية بدا من التصدي لخطورة هذا الفعل الإقصائي لهوية ضاربة أطنابها في أعماق تاريخ البلاد ([48])، بتوظيف مختلف الإمكانات المتاحة لدى المستعمر، أمنيا وتشريعيا وقانونيا.

من داخل هذا النسق، تسارعت وثيرة تأسيس هيئات مدنية في مختلف الحواضر والمراكز، ولو أنها كانت بعدد محدود من الأعضاء، باعتماد طرق سرية في عملها قصد مواجهة " متطلبات المرحلة المدموغة بطابع الإقصاء والقمع من طرف الجهاز الوصي، في إطار موقفه الشمولي من الأماني العامة التي كانت الحركة الوطنية المغربية تجسد رأس رمحها"، كما قال أحد الباحثين ([49]).

و كانت أولى النماذج الجمعوية الحديثة تلك التي قدمتها "طنجة الدولية" و"تطوان" ذات الصبغة الدولية أنداك، من قبيل "جمعية المغرب" التي تم تأسيسها سنة 1918، و"جمعية الهلال" المؤسسة سنة 1923، على يد  أحد الأشخاص يسمى "أحمد ياسين"([50])، قبل أن تسترسل عملية تأسيس تنظيمات أخرى  بمنطقة الحماية الفرنسية، مستلهمة التجربة الشرقية ( مصر) الوافدة علينا على شكل فرق مسرحية ( جورج أبيض، منيرة المهدية، يوسف وهبي)، كاستجابة موضوعية لحاجيات اجتماعية وثقافية جديدة ناتجة عن اصطدام البنيات التقليدية المغربية مع ما أفرزه الاستعمار الفرنسي من تحولات مست جميع الميادين. ومن التعبيرات المدنية المغربية التي رأت النور منذ العشرينيات، يمكن ذكر على سبيل المثال لا الحصر[51]:

§         جمعية قدماء تلاميذ المدرسة الثانوية الإسلامية الفاسية، سنة 1921؛

§         جمعية مدرسة العاصمة الرباطية، من تأسيس محمد اليزيدي، سنة 1923؛

§         جوق التمثيل الفاسي، من تأسيس جماعة من الطلبة، سنة 1924،

§         فرقة مسرحية بمراكش، من تأسيس مصطفى الجزار، سنة 1927؛

§         فرقة التمثيل بمدينة سلا، سنة 1930؛

§         جمعية تلاميذ أبناء الأعيان بالدار البيضاء، سنة 1936؛

§         شباب طنجة (وهو الإسم الجديد لجمعية الهلال التي حلت بقرار من إدارة المستعمر الإسباني) سنة 1938؛

§         فرقة "الأحرار" بالرباط، وهي تجميع لعدة فرق كانت تعمل بالثانويات سنة 1947؛

§         فرقة "النجم المغربي" للتمثيل العربي بفاس سنة 1948.

 

وعلاوة على هذه التنظيمات والفرق المسرحية، لم يتردد الوطنيون المغاربة في توسيع دائرة النضال الوطني في شقه الثقافي والتربوي، والموجه بالدرجة الأولى للشبيبة المغربية. وهكذا عملوا على تأسيس منظمات كانت في البداية تتحرك ضمن حدود ضيقة محلية، لكن سرعان ما أخذت توجها جماهيريا واسعا على صعيد باقي المدن الحضرية وخاصة الكبيرة منها كفاس، والرباط، والدار البيضاء، ومراكش ([52]).

ومن المكونات الأهلية التي تم إنشاؤها آنئد نجد منظمة "الكشفية الحسنية"، المحدثة سنة 1933، بدعم شرفي من السلطان محمد بن يوسف، وبدعم عملي من ولي عهده الحسن، حيث ستحمل منذ ذاك الحين ذات الإسم ([53]). وتعتبر هذه المنظمة نواة أولى للكشفية المغربية خاصة، وللحركة الجمعوية في المغرب الفرنسي عامة([54])، وكذلك منظمة "الكشافة المغربية الإسلامية" بفاس، سنة 1946، وكانت تابعة لحزب " الشورى والاستقلال، والتي لم يكتب لها الاعتراف القانوني إلا سنة 1949 بعد ثلاث سنوات من وجودها، وهي هيئة كشفية ثانية أسست على يد المرحوم محمود العلمي([55])، دون نسيان الفرق الموسيقية والشعبية، ممثلة في أجواق "الملحون"، و"الطقطوقة الجبلية"، و "أحواش"، و "أحيدوس" وغيرها، والتي مثلت، حسبما سمح به شرطها التاريخي آنذاك، تصديا لتوجه الاستعمار القاضي بتهميش الفنون الشعبية ومسخ الكيان الثقافي التراثي المغربي، ودفاعا عن اللغة العربية ونشرها.

وبنظرة أولى يتضح أن عمل المنظمات الأهلية التي تم إحداثها من طرف نخب الحركة الوطنية ركزت بشكل رئيسي على العمل الثقافي، من حيث الاهتمام بالعمل المسرحي كوسيلة لنشر الأفكار الجديدة، وإلهاب حماس المغاربة، وقراءة الجرائد والكتب، والتعليق عليها ([56]).

 كما استند العمل الوطني على "جمعية قدماء بعض الثانويات" العريقة بالبلاد، معتبرة إياه قطاع حيوي لنشر الأفكار الوطنية ([57])، ومنها نجد جمعية "قدماء ثانوية مولاي ادريس" بفاس. ومما ترتب عن هذا الأمر أن النخبة الوطنية المتبنية لهذا العمل، وجدت مجالا من خلاله روجت لفكرة التحرر الوطني، والمنافحة عن قضية استقلال البلاد من ربقة الاحتلال. انضاف إلى باقي خلايا النضال الوطني المغربي في مواجهة الغطرسة الأجنبية.

ولاغرو في ذلك إذا علمنا أن غالبية زعماء الحركة الوطنية تمرسوا في هذه التنظيمات واكتسبوا أبجديات الممارسة النضالية ضد المحتل الأجنبي، من خلال الأنشطة التي كانت تنظم حينذاك، واللقاءات الثقافية والبرامج التحسيسية بالقضية الوطنية ([58])، والتي لم تكن بالسلاسة التي يمكن تصورها في ظل نظام استعماري قمعي لم يذخر جهدا في ممارسة مختلف أنواع التنكيل ضد أي مبادرة تنحو منحى التحرر من ربقته.

وغني عن البيان أن كل ما جرى من مشاط موسع في أوساط الحركة الوطنية، وخاصة ما يتعلق بتأسيس حركات جمعوية في تلك الفترة من تاريخ المغرب، إنما شكل مجالا لتدعيم أنشطة النخبة المثقفة، وتوحيد عملها، وفرصة لإثبات قدرتها على التنظيم والفعل الوطنيين، ومحكا لذات النخبة القائدة لعملية التحرر الوطني للوقوف على قدراتها التنظيمية والتعبوية وسط مختلف فئات المجتمع المغربي.

وهنا نتفق مع ما ذهب إليه أحد الباحثين بالقول إن المنظمات الأهلية قامت بأدوار تنظيمية جد مهمة حددها في ثلاثة أمور رئيسية:" أولا دور توحيدي، حيث تم توحيد أفراد النخبة داخليا وخارجيا، وثانيا دور اختباري، من حيث السماح للأفراد باكتساب تكوين عملي وتجربة على المستوى التنظيمي، وثالثا أن الجمعيات أتاحت للشباب المثقف بالتعامل مع أوسع جمهور ممكن"([59]).

وغير بعيد عن حديثنا، نشير إلى ملاحظتين رئيسيتين:

أولاهما، أن الاهتمام الفرنسي بالشباب لم يقتصر قط على المجال التعليمي الذي كانت تشرف عليه إدارة التعليم العمومي، بل تعدى ذلك إلى مجالات كان ينظر إليها أنها ذات طبيعة ترفيهية وفنية من شأنها استقطاب شباب المغرب لمختلف المؤسسات الحديثة النشأة كدور الشباب، والجمعيات والنوادي الفنية والرياضية، وفضاءات التخييم وغيرها ([60]). إلا أن واقع الحال كان أبعد ما يكون عن قول المستعمر بالاهتمام بقضايا الشباب واهتماماتهم، ولا ادل على ذلك من القوانين المجحفة التي سنت في هذا الإطار.

وثانيهما، هو السعي الحثيث لإدارة المستعمر في التقرب من الشبيبة المغربية، بتوجيه من أساطين الحماية، هؤلاء اعتبروا هذه الفئة مؤهلة أكثر من غيرها لتقبل مختلف السياسات الفرنسية المنتهجة بالمغرب واستبطانها وتمثلها، خاصة في المدن الكبرى. والهدف كما هو واضح هو حرف أنظار الشبيبة المغربية عن مشاكل البلاد، وما يرزح تحته المجتمع المغربي من استغلال لمقدراته الاقتصادية، وتمييز بين مختلف الفئات المشكلة للمجتمع. وقد دعمت الإدارة المذكورة سياستها بانتهاج أسلوب قمعي تنكيلي اتجاه كل المبادرات التي رأت فيها تهديدا لمصالحها و " انتقاصا" لما كانت تسطره من " مبادرات" تتماشى ودورها الحضاري المزعوم.

8-تضييق إدارة الحماية على أنشطة المنظمات الأهلية الوطنية

أمام الفورة والدينامية التي عرفها المجتمع المغربي، سارعت الأوساط الاستعمارية إلى العمل على احتواء مطالب الشبيبة المغربية، التي انزعجت منها أيما انزعاج، بحيث رأت فيها تهديدا لأسس مشروعها الاستعماري. وتجلت هذه السياسة الاحتوائية في إدارة الحماية بتجنيد كل إمكانياتها التشريعية والأمنية لتجويف تلك المطالب وإفراغها من محتواها الوطني. وفي هذا الصدد، يشير أحد الباحثين أن السلطات الاستعمارية، ومن منطلق وعيها بخطورة هذه الحركة الجمعوية الجديدة، وخوفا على مصالحها، سعت إلى عرقلة تأسيس التنظيمات الأهلية الوطنية ذات الصبغة الثقافية والتربوية والفنية ([61]).

وعلى العموم فقد تأرجحت مواقف السلطات الاستعمارية تجاه هذه التنظيمات بين التشجيع، خاصة عندما يتعلق الأمر بجمعيات تخضع لتوجيه الإدارة وتخدم غاياتها، أو على الأقل لا تشكل أي تهديد لوجودها، وبين التضييق والحصار، في حالة العكس، كما حدث مثلا لجمعية "قدماء تلاميذ ثانوية أزرو"، التي رفض الحاكم العسكري لجهة مكناس الترخيص بتأسيسها بتاريخ 27 مارس 1942، قبل السماح بذلك عندما ضمن إمكانية التحكم فيها عبر فرض قانون أساسي تحكمي و"تعيين" أعضاء الجمعية   كما تشير الوثائق ذات الصلة.

إلا أنه، ورغم وجود هذه الرقابة الإدارية، فإن ذلك لم يمنع شباب الحركة الوطنية من إبداع أشكال جمعوية متعددة الواجهات، الرياضية والفنية والتربوية في ظاهرها، لكن في باطنها شكلت خلايا مقاومة محصنة للهوية المغربية، للمساهمة بشكل او بآخر في بناء وطن حديث منفلت من كافة أسباب انهياره سنة 1912، تاريخ فرض المعاهدة المشؤومة على البلد.

إنها محاولات أراد من خلالها إداريو السلطات الفرنسية قطع الطريق أمام الوطنيين للاشتغال وسط الشباب المنظم والغير المنظم، بهدف إذكاء الحماس، والرفع من درجة وعي المغاربة بقضيتهم الأولى: المطالبة بالاستقلال، وتوجيهم نحو التشبث بهويتهم، وتأهيليهم للحظة القطع مع الاستعمار. وهو ما ترجمته الحركة الوطنية من خلال التواجد المكثف داخل مختلف الجمعيات الأهلية التي رأت النور في فترة الاربعينيات، الرياضية والمسرحية والكشفية، والتي كانت تشتغل مع الأطفال والشباب. وهو تواجد كان من شأنه إعداد الشبيبة بما يمكنها من مجابهة واقع الاستعمار بكافة الأسلحة الثقافية والفنية والتعبيرية والتربوية، وهي ذات الأليات التي كان المستعمر يحاول توظيفها في تأطير الشبيبة المغربية.

9-النشاط الجمعوي للتنظيمات المغربية، أسئلة لازالت تنتظر نفض الغبار عنها

من خلال تتبع حركية تأسيس الجمعيات إبان عهد الاستعمار، لابد للدارس المتلهف إلى فهم واستيعاب السياق التاريخي لهذه المؤسسات، بعد وصولنا إلى العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين من الألفية الثالثة، وأن تستوقفه مجموعة إشكالات تتمحور كلها حول بضعة أسئلة عريضة وهي: إلى أي حد تفوقت مختلف التعبيرات الجمعوية المحدثة بقرار من الحركة الوطنية في المهام التي أنشئت من أجلها، على الأقل فيما يخص تحصين الهوية المغربية من كل تشويه وطمس؟ وإلى أي حد كانت برامج الحركة الجمعوية الحديثة النشأة قمينة بخوض الصراع الوطني مع المستعمر؟ وهل توفقت ذات الحركة في الانتشار مجتمعيا، في ظل أجواء المنع والتضييق التي كانت تعيشها من سلطات إدارة الحماية وممثليها في المدن والقرى؟ وهل كانت المنظمات المحدثة التي تم تأسيسها إبان فترة الاستعمار تمتلك برامج عمل واضحة وواعية بذاتها؟ وهل توفق الممارسون للعمل التطوعي النفاذ إلى المجتمع بكافة فئاته، كشكل من أشكال تجاوز النخبوية التي طغت في ممارساتها، حيث لم تكن تمثل إلا فئة الشباب المتعلم مع بعض الاستثناءات القليلة في هذا الباب؟

هي أسئلة تستدعي منا كباحثين وكممارسين في الميدان كتابة أوراق بحثية أخرى، ودراسات مستفيضة، لا شك ستكون قمينة بالإجابة عنها وتلمس مفاتيحها.

وجل ما يمكن الإدلاء به في هذا المضمار، أن الهامش الضيق الذي وفرته إدارة الحماية لتنظيم كافة أشكال ممارسة الفعل الجمعوي، دفع بالنخبة إلى تأسيس تنظيمات ظلت مرتبطة أشد الارتباط بالحركة الوطنية المغربية، في مسعى منها لتجاوز انعزالية ومحدودية العمل الأهلي الممارس آنئد، وهو ما أتاح لها، ولو في الحد الأدنى، بلورة أشكال متنامية للممارسة الأهلية، وتحقيق تطور نسبي، وانغراس في أوساط المجتمع.

ولما كان المجتمع المغربي على تلك الدرجة من الحيوية والنشاط، كان لزاما أن ينعكس ذلك على نشاط الحركة الوطنية بالمغرب، وعلى أدوات تصريفها لمواقفها إزاء الظاهرة الاستعمارية. لذا تم توظيف عمل الجمعيات بذكاء بغية التحاق الشباب بمجريات الصراع الوطني مع المستعمر والمشاركة فيه، ناهيك عن كون الممارسة الجمعوية آنئد كانت آلية فعالة في التواصل مع المغاربة وتوسيع دائرة التعريف بمواقف الوطنيين من مختلف السياسات الاستعمارية المنتهجة.

وقد استمر الوضع على هذا الحال، إلى حدود منتصف الخمسينات، التي شهد فيها الفعل الجمعوي توسعا كميا وكيفيا، وتغيرا في أهدافه وبنيته، ومجالات اشتغاله. حيث شهدت هذه المرحلة ميلاد جمعيات بتلاوين واهتمامات متباينة، سياسية (كمنظمة الشبيبة الاستقلالية)، ونقابية (كالاتحاد الوطني لطلبة المغرب)، وتربوية (كحركة الطفولة الشعبية، والجمعية المغربية لتربية الشبيبة)، وهي التنظيمات التي استلهمت روح وخطاب حركة التحرر الوطني، وعانت من التضييق على عملها علاقة بالصراع السياسي والإيديولوجي القائم آنذاك. ([62]).

 

خاتمة:

 

هكذا، ومن من خلال الصورة الأولية التي حاولنا رسمها للتنظيمات الجمعوية المغربية خلال الحقبة الاستعمارية ، يتبدى لنا مدى حيوية هذه التنظيمات ومساهمتها في جعل المغاربة في قلب التحولات المفصلية التي عاشتها البلاد. فوقوع المغاربة تحت الاحتلال الأجنبي، حتم عليهم، من جهة وعلى النخبة المثقفة من جهة أخرى تأسيس جمعيات اختارت الانخراط في طريق النضال السياسي، على الأقل المساهمة في تحصين الهوية والذاكرة المغربيتين اللتان كانتا تتعرضان للطمس والتشويه، من طرف محتل، كان همه الأساس كيفية تطويع الناس واستمالتهم لتمثل ما كانت تقوم به الإدارة الاستعمارية من دور حضاري مزعوم.

 يبقى علينا، في ختام هذا البحث، أن نطرح سؤالا طالما طرحه المتتبعون لتاريخ الحركة الجمعوية بالبلاد. والسؤال يمكن صياغته كالتالي: هل يمكن اعتبار التنظيمات التي نشأت مع الظاهرة الاستعمارية امتدادا لمختلف الممارسات الاجتماعية وأنظمة التعاون والتآزر التقليدية التي عرفها المجتمع المغربي عبر سيرورة تاريخه الطويل؟  سؤال احتل موقعا أساسيا ضمن مساحة اهتمام العديد من الباحثين. ومع وعيي أن هذا السؤال يتطلب بحثا آخرا دقيقا ومفصلا، سأقتصر، مع ذلك، على ذكر الإشارات التالية:

أولا، أن الاختلاف قائما بين التنظيمات التقليدية والتنظيمات الجمعوية بشكلها الحديث، فضلا على أنه لا يمكن الجمع بين نسقين اجتماعيين متنافرين من حيث المضمون ودور كل منهما. فالنسق التقليدي كانت العلاقات فيه تقوم على القرابة ورابطة الدم ووحدة الانتماء إلى المجال، وتواري ذاتية الفرد وراء سلطة جماعية تمثلها ذات القبيلة، بينما يقوم النسق الحديث على تعاقد قائم بين كيانات مستقلة بذاتها، المحدد فيها هو ماهية أدورا كل مكون من مكونات التنظيم الأهلي الحديث.      

ثانيا، أن الشرط التاريخي لبروز المنظمات الجمعوية في المرحلة الاستعمارية بكل مخلفاتها، كان لا يتيح الاستجابة لانتظارات المغاربة ومواكبة احتياجاتهم الطارئة، وتحقيق أمانيهم في معناها العام، لاعتبارات أمنية تضييقية من طرف المحتل. ومع ذلك فمحدودية الممارسة الجمعوية وعزلتها إبان الاستعمار الأجنبي، كانت حافزا للنخبة المثقفة المغربية آنئد، للبحث عن سبل بلورة عمل أهلي قوي، منفتح على أوسع الفئات الاجتماعية، وقادر على ربح رهان المواجهة في تعبئة المغاربة وتحسيسهم بخطورة الظاهرة الاستعمارية، وتهيئتهم لمواجهة مخططات إدارة الحماية، الرامية إلى تأبيد الاستغلال والسيطرة على مقدرات البلاد.

ثالثا، وضمن ذات السياق الختامي، لابد من التشديد على أن العمل الحثيث لرواد الحركة الوطنية لجهة الانتباه لأهمية الجمعيات في التصدي لمخططات الاستعمار، انعكس إيجابا على وضعية ذات التنظيمات المؤسسة في تلك الفترة، حيث حققت تطورا نسبيا، وتوسعت قاعدتها البشرية في مختلف المجالات الجغرافية الممتدة في خريطة البلاد. لما لا والنخبة الوطنية أدركت أن تلك الأدوات الجديدة هي مفتاح "بث الوعي في جميع المغاربة لإثبات معالم الذات والتصدي للدعاية الاستعمارية التي كان من مصلحتها أن توهم نفسها وتوهم من يصغي إليها أن المغرب لا يزال واقفا عند القرون البائدة"، كما قال أحد المؤرخين المغاربة المعاصرين[63]. 

رابعا، أنه إذا كنا قد اكتفينا بتتبع ورصد تاريخ الحركة الجمعوية في علاقتها بالنظام الاستعماري وما قامت به من مهام وأدوار، فإن ذلك لا يعني التسليم بأن نشأة هذه المنظمات كانت من اليسر بمكان، فمجمل المؤسسات الوليدة تأثرت بالحملات القمعية لسلطات الاحتلال. فعلى سبيل المثال، يكفي القول إن التضييق لم تسلم منه أية واجهة مدنية. تجسد ذلك في اعتقال الحاملين للواء النضال المدني ضد المستعمر، والتضييق على العديد من المنظمات. والقول نفسه ينطبق حتى على المؤسسات التي اتخذت من العمل الفني واجهة لعملها، ووسيلة لشحذ الهمم، وبناء الذاكرة الجمعية للمغاربة.

أملي أن أكون قد عبرت من خلال هذه المساهمة البحثية عن انشغالات باحث في تاريخ بلادي، وكممارس ميداني في العمل الجمعوي بالمغرب، ومتطلع لكي تحتل الحركة المدنية موقعها الأساسي في كسب رهان المساهمة الفعالة والواعية في التأطير المجتمعي للأفراد والجماعات، تأطيرا يسهل عليهم امتلاك الوعي بذواتهم وبطبيعة أدوراهم في المجتمع من كل النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وخدمة التنمية في كل مجالاتها.

 

الدكتور عبد العزيز عموري

الرباط - المغرب



 

 

 

 

 

  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

«
Next
رسالة أحدث
»
Previous
رسالة أقدم

ليست هناك تعليقات:

الرجاء من السادة القراء ومتصفحي الموقع الالتزام بفضيلة الحوار وآداب وقواعد النقاش عند كتابة ردودهم وتعليقاتهم،وتجنب استعمال الكلمات النابية أو الحاطة للكرامة الإنسانية.